فصل: تفسير الآيات رقم (59- 74)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 74‏]‏

‏{‏إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏59‏)‏ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ‏(‏60‏)‏ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏61‏)‏ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏62‏)‏ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏63‏)‏ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏64‏)‏ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏65‏)‏ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏66‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏68‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ‏(‏69‏)‏ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏70‏)‏ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ‏(‏71‏)‏ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ‏(‏72‏)‏ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏73‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الساعة لأَتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا‏}‏ في مجيئها لوضوح الدلالة على جوازها وإجماع الرسل على الوعد بوقوعها‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ لا يصدقون بها لقصور نظرهم على ظاهر ما يحسون به‏.‏

‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى‏}‏ اعبدوني‏.‏ ‏{‏أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ أثبكم لقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين‏}‏ صاغرين، وإن فسر الدعاء بالسؤال كان الاستكبار الصارف عنه منزلاً منزلته للمبالغة، أو المراد بالعبادة الدعاء فإنه من أبوابها‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو بكر «سَيُدْخَلُونَ» بضم الياء وفتح الخاء‏.‏

‏{‏الله الذى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ‏}‏ لتستريحوا فيه بأن خلقه بارداً مظلماً ليؤدي إلى ضعف الحركات وهدوء الحواس‏.‏ ‏{‏والنهار مُبْصِراً‏}‏ يبصر فيه أو به، وإسناد الإِبصار إليه مجاز فيه مبالغة ولذلك عدل به عن التعليل إلى الحال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس‏}‏ لا يوازيه فضل، وللإِشعار به لم يقل لمفضل‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ لجهلهم بالمنعم وإغفالهم مواقع النعم، وتكرير الناس لتخصيص الكفران بهم‏.‏

‏{‏ذلكم‏}‏ المخصوص بالأفعال المقتضية للألوهية والربوبية‏.‏ ‏{‏الله رَبُّكُمْ خالق كُلِّ شَئ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ أخبار مترادفة تخصص اللاحقة السابقة وتقررها، وقرئ «خالق» بالنصب على الاختصاص فيكون ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ استئنافاً بما هو كالنتيجة للأوصاف المذكورة‏.‏ ‏{‏فأنى تُؤْفَكُونَ‏}‏ فكيف ومن أي وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره‏.‏

‏{‏كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بئايات الله يَجْحَدُونَ‏}‏ أي كما أفكوا أفك عن الحق كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها‏.‏

‏{‏الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً والسماء بِنَاءً‏}‏ استدلال ثان بأفعال أخر مخصوصة‏.‏ ‏{‏وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ‏}‏ بأن خلقكم منتصب القامة بادي البشرة متناسب الأعضاء، والتخطيطات متهيأ لمزاولة الصنائع واكتساب الكمالات‏.‏ ‏{‏وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات‏}‏ اللذائذ‏.‏ ‏{‏ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فتبارك الله رَبُّ العالمين‏}‏ فإن كل ما سواه مربوب مفتقر بالذات معرض للزوال‏.‏

‏{‏هُوَ الحي‏}‏ المتفرد بالحياة الذاتية‏.‏ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ إذ لا موجد سواه ولا موجد يساويه أو يدانيه في ذاته وصفاته‏.‏ ‏{‏فادعوه‏}‏ فاعبدوه‏.‏ ‏{‏مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏ أي الطاعة من الشرك والرياء‏.‏ ‏{‏الحمد للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ قائلين له‏.‏

‏{‏قُلْ إِنّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَمَّا جَاءَنِى البينات مِن رَّبّى‏}‏ من الحجج والآيات أو من الآيات فإنها مقوية لأدلة العقل منبهة عليها‏.‏ ‏{‏وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبّ العالمين‏}‏ بأن أنقاد له أو أخلص له ديني‏.‏

‏{‏هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً‏}‏ أطفالاً، والتوحيد لإرادة الجنس أو على تأويل كل واحد منكم‏.‏

‏{‏ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ‏}‏ اللام فيه متعلقة بمحذوف تقديره‏:‏ ثم يبقيكم لتبلغوا وكذا في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً‏}‏ ويجوز عطفه على ‏{‏لِتَبْلُغُواْ‏}‏ وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص وهشام «شُيُوخاً» بضم الشين‏.‏ وقرئ «شيخاً» كقوله «طِفْلاً»‏.‏ ‏{‏وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل الشيخوخة أو بلوغ الأشد‏.‏ ‏{‏وَلِتَبْلُغُواْ‏}‏ ويفعل ذلك لتبلغوا‏:‏ ‏{‏أَجَلاً مُّسَمًّى‏}‏ هو وقت الموت أو يوم القيامة‏.‏ ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ما في ذلك من الحجج والعبر‏.‏

‏{‏هُوَ الذى يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قضى أَمْراً‏}‏ فإذا أراده‏.‏ ‏{‏فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ فلا يحتاج في تكوينه إلى عدة وتجشم كلفة، والفاء الأولى للدلالة على أن ذلك نتيجة ما سبق من حيث أنه يقتضي قدرة ذاتية غير متوقفة على العدد والمواد‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يجادلون فِى ءايات الله أنى يُصْرَفُونَ‏}‏ عَن التصديق به وتكريم ذم المجادلة لتعدد المجادل، أو المجادل فيه أو للتأكيد‏.‏

‏{‏الذين كَذَّبُواْ بالكتاب‏}‏ بالقرآن أو بجنس الكتب السماوية‏.‏ ‏{‏وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا‏}‏ من سائر الكتب أو الوحي والشرائع‏.‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ جزاء تكذيبهم‏.‏

‏{‏إِذِ الأغلال فِى أعناقهم‏}‏ ظرف ل ‏{‏يَعْلَمُونَ‏}‏ إذ المعنى على الاستقبال، والتعبير بلفظ المضي لتيقنه‏.‏ ‏{‏والسلاسل‏}‏ عطف على ‏{‏الأغلال‏}‏ أو مبتدأ خبره‏.‏ ‏{‏يُسْحَبُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏فِى الحميم‏}‏ والعائد محذوف أي يسحبون بها، وهو على الأول حال‏.‏ وقرئ ‏{‏والسلاسل يُسْحَبُونَ‏}‏ بالنصب وفتح الياء على تقديم المفعول وعطف الفعلية على الاسمية، ‏{‏والسلاسل‏}‏ بالجر حملاً على المعنى ‏{‏إِذِ الإغلال فِى أعناقهم‏}‏ بمعنى أعناقهم في الأغلال، أو إضماراً للباء ويدل عليه القراءة به‏.‏ ‏{‏ثُمَّ فِى النار يُسْجَرُونَ‏}‏ يحرقون من سجر التنور إذا ملأه بالوقود، ومنه السجير للصديق كأنه سجر بالحب أي ملئ‏.‏ والمراد أنهم يعذبون بأنواع من العذاب وينقلون من بعضها إلى بعض‏.‏

‏{‏ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا‏}‏ غابوا عنا وذلك قبل أن تقرن بهم آلهتهم، أو ضاعوا عنا فلم نجد ما كنا نتوقع منهم‏.‏ ‏{‏بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً‏}‏ أي بل تبين لنا لم نكن نعبد شيئاً بعبادتهم فإنهم ليسوا شيئاً يعتد به كقولك‏:‏ حسبته شيئاً فلم يكن‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك الضلال‏.‏ ‏{‏يُضِلُّ الله الكافرين‏}‏ حتى لا يهتدوا إلى شيء ينفعهم في الآخرة، أو يضلهم عن آلهتهم حتى لو تطالبوا لم يتصادفوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 85‏]‏

‏{‏ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ‏(‏75‏)‏ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏76‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏77‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏78‏)‏ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏79‏)‏ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ‏(‏80‏)‏ وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ ‏(‏81‏)‏ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏83‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ‏(‏84‏)‏ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏ذلكم‏}‏ الإِضلال‏.‏ ‏{‏بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الأرض‏}‏ تبطرون وتتكبرون‏.‏ ‏{‏بِغَيْرِ الحق‏}‏ وهو الشرك والطغيان‏.‏ ‏{‏وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ‏}‏ تتوسعون في الفرح، والعدول إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ‏.‏

‏{‏ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ‏}‏ الأبواب السبعة المقسومة لكم‏.‏ ‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ مقدرين الخلود‏.‏ ‏{‏فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين‏}‏ عن الحق جهنم، وكان مقتضى النظم فبئس مدخل المتكبرين ولكن لما كان الدخول المقيد بالخلود بسبب الثواء عبر بالمثوى‏.‏

‏{‏فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله‏}‏ بهلاك الكافرين‏.‏ ‏{‏حَقّ‏}‏ كائن لا محالة‏.‏ ‏{‏فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ‏}‏ فإن نرك، وما مزيدة لتأكيد الشرطية ولذلك لحقت النون الفعل ولا تلحق مع أن وحدها‏.‏ ‏{‏بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ‏}‏ وهو القتل والأسر‏.‏ ‏{‏أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ‏}‏ قبل أن تراه‏.‏ ‏{‏فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ‏}‏ يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم، وهو جواب ‏{‏نَتَوَفَّيَنَّكَ‏}‏، وجواب ‏{‏نُرِيَنَّكَ‏}‏ محذوف مثل فذاك، ويجوز أن يكون جواباً لهما بمعنى إن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب، ويدل على شدته الاقتصار بذكر الرجوع في هذا المعرض‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ‏}‏ إذ قيل عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، والمذكور قصصهم أشخاص معدودة‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ فإن المعجزات عطايا قسمها بينهم على ما اقتضته حكمته كسائر القسم، ليس لهم اختيار في إيثار بعضها والاستبداد بإتيان المقترح بها‏.‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ الله‏}‏ بالعذاب في الدنيا أو الآخرة‏.‏ ‏{‏قُضِىَ بالحق‏}‏ بإنجاء المحق وتعذيب المبطل‏.‏ ‏{‏وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون‏}‏ المعاندون باقتراح الآيات بعد ظهور ما يغنيهم عنها‏.‏

‏{‏الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الأنعام لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ فإن من جنسها ما يؤكل كالغنم ومنها ما يؤكل ويركب كالإِبل والبقر‏.‏

‏{‏وَلَكُمْ فيِهَا منافع‏}‏ كالألبان والجلود والأوبار‏.‏ ‏{‏وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ‏}‏ بالمسافرة عليها‏.‏ ‏{‏وَعَلَيْهَا‏}‏ في البر‏.‏ ‏{‏وَعَلَى الفلك‏}‏ في البحر‏.‏ ‏{‏تُحْمَلُونَ‏}‏ وإنما قال ‏{‏وَعَلَى الفلك‏}‏ ولم يقل في الفلك للمزاوجة، وتغيير النظم في الأكل لأنه في حيز الضرورة‏.‏ وقيل لأنه يقصد به التعيش وهو من الضروريات والتلذذ والركوب والمسافرة عليها قد تكون لأغراض دينية واجبة أو مندوبة، أو للفرق بين العين والمنفعة‏.‏

‏{‏وَيُرِيكُمْ ءاياته‏}‏ دلائله الدالة على كمال قدرته وفرط رحمته‏.‏ ‏{‏فَأَىَّ آيَاتِ اللهِ‏}‏ أي فأي آية من تلك الآيات‏.‏ ‏{‏تُنكِرُونَ‏}‏ فإنها لظهورها لا تقبل الإِنكار، وهو ناصب «أي» إذا لو قدرته متعلقاً بضميره كان الأولى رفعه والتفرقة بالتاء في أي أغرب منها في الأسماء غير الصفات لإبهامه‏.‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءاثَاراً فِى الأرض‏}‏ ما بقي منهم من القصور والمصانع ونحوهما، وقيل آثار أقدامهم في الأرض لعظم أجرامهم‏.‏

‏{‏فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ «ما» الأولى نافية أو استفهامية منصوبة بأغنى، والثانية موصولة أو مصدرية مرفوعة به‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات‏}‏ بالمعجزات أو الآيات الواضحات‏.‏ ‏{‏فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم‏}‏ واستحقروا علم الرسل، والمراد بالعلم عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة كقوله‏:‏ ‏{‏بَلِ ادرك عِلْمُهُمْ فِى الاخرة‏}‏ وهو قولهم‏:‏ لا نبعث ولا نعذب، وما أظن الساعة قائمة ونحوها، وسماها علماً على زعمهم تهكماً بهم، أو علم الطبائع والتنجيم والصنائع ونحو ذلك، أو علم الأنبياء، وفرحهم به ضحكهم منه واستهزاؤهم به ويؤيده‏:‏ ‏{‏وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ‏}‏ وقيل الفرح أيضاً للرسل فإنهم لما رأوا تمادي جهل الكفار وسوء عاقبتهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم‏.‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا‏}‏ شدة عذابنا‏.‏ ‏{‏قَالُواْ ءَامَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ‏}‏ يعنون الأصنام‏.‏

‏{‏فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا‏}‏ لامتناع قبوله حينئذ ولذلك قال‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُ‏}‏ بمعنى لم يصح ولم يستقم، والفاء الأولى لأن قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا أغنى‏}‏ كالنتيجة لقوله‏:‏ ‏{‏كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ‏}‏، والثانية لأن قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم‏}‏ كالتفسير لقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا أغنى‏}‏ والباقيتان لأن رؤية البأس مسببة عن مجيء الرسل وامتناع نفي الإِيمان مسبب عن الرؤية‏.‏ ‏{‏سُنَّتَ الله التى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ‏}‏ أي سن الله ذلك سنة ماضية في العباد وهي من المصادر المؤكدة‏.‏ ‏{‏وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون‏}‏ أي وقت رؤيتهم البأس، اسم مكان استعير للزمان‏.‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من قرأ سورة المؤمن لم يبق روح نبي ولا صديق ولا شهيد ولا مؤمن إلا صلى عليه واستغفر له ‏"‏‏.‏

سورة فصلت

مكية وآيها ثلاث أو أربع وخمسون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏2‏)‏ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏4‏)‏ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ‏(‏5‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ‏(‏6‏)‏ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏8‏)‏ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏9‏)‏ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ‏(‏10‏)‏ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏حَمَ‏}‏ إن جعلته مبتدأ فخبره‏.‏

‏{‏تَنزِيلٌ مّنَ الرحمن الرحيم‏}‏ وإن جعلته تعديداً للحروف ف ‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ خبر محذوف أو مبتدأ لتخصصه بالصفة وخبره‏:‏

‏{‏كِتَابٌ‏}‏ وهو على الأولين بدل منه أو خبر آخر أو خبر محذوف، ولعل افتتاح هذه السور السبع ب ‏{‏حم‏}‏ وتسميتها به لكونها مصدرة ببيان الكتاب متشاكلة في النظم والمعنى، وإضافة ال ‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ إلى ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏ للدلالة على أنه مناط المصالح الدينية والدنيوية‏.‏ ‏{‏فُصّلَتْ ءاياته‏}‏ ميزت باعتبار اللفظ والمعنى‏.‏ وقرئ ‏{‏فُصّلَتْ‏}‏ أي فصل بعضها من بعض باختلاف الفواصل والمعاني، أو فصلت بين الحق والباطل‏.‏ ‏{‏قُرْءاناً عَرَبِيّاً‏}‏ نصب على المدح أو الحال من ‏{‏فُصّلَتْ‏}‏، وفيه امتنان بسهولة قراءاته وفهمه‏.‏ ‏{‏لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي لقوم يعلمون العربية أو لأهل العلم والنظر، وهو صفة أخرى ل ‏{‏قُرْءاناً‏}‏ أو صلة ل ‏{‏تَنزِيلَ‏}‏، أو ل ‏{‏فُصّلَتْ‏}‏، والأول أولى لوقوعه بين الصفات‏.‏

‏{‏بَشِيراً وَنَذِيراً‏}‏ للعاملين به والمخالفين له، وقرئا بالرفع على الصفة لل ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ أو الخبر لمحذوف‏.‏ ‏{‏فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ‏}‏ عن تدبره وقبوله‏.‏ ‏{‏فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ سماع تأمل وطاعة‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ‏}‏ أغطية جمع كنان‏.‏ ‏{‏مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءَاذانِنَا وَقْرٌ‏}‏ صمم، وأصله الثقل، وقرئ بالكسر‏.‏ ‏{‏وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ‏}‏ يمنعنا عن التواصل، ومن للدلالة على أن الحجاب مبتدأ منهم ومنه بحيث استوعب المسافة المتوسطة ولم يبق فراغ‏.‏ وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك ما يدعوهم إليه واعتقادهم ومج أسماعهم له، وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏فاعمل‏}‏ على دينك أو في إبطال أمرنا‏.‏ ‏{‏إِنَّنَا عاملون‏}‏ على ديننا أو في إبطال أمرك‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ‏}‏ لست ملكاً ولا جنياً لا يمكنكم التلقي منه، ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول والاسماع، وإنما أدعوكم إلى التوحيد والاستقامة في العمل، وقد يدل عليهما دلائل العقل وشواهد النقل‏.‏ ‏{‏فاستقيموا إِلَيْهِ‏}‏ فاستقيموا في أفعالكم متوجهين إليه، أو فاستووا إليه بالتوحيد والإِخلاص في العمل‏.‏ ‏{‏واستغفروه‏}‏ مما أنتم عليه من سوء العقيدة والعمل، ثم هددهم على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ‏}‏ من فرط جهالتهم واستخفافهم بالله‏.‏

‏{‏الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة‏}‏ لبخلهم وعدم اشفاقهم على الخلق، وذلك من أعظم الرذائل، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع‏.‏ وقيل معناه لا يفعلون ما يزكي أنفسهم وهو الإِيمان والطاعة‏.‏ ‏{‏وَهُمْ بالآخرة هُمْ كافرون‏}‏ حال مشعرة بأن امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في طلب الدنيا وإنكارهم للآخرة‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ‏}‏ عظيم‏.‏ ‏{‏غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ لا يمن به عليهم من المن وأصله الثقل، أو لا يقطع من مننت الحبل إذا قطعته‏.‏ وقيل نزلت في المرضى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصلح ما كانوا يعملون‏.‏

‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ‏}‏ في مقدار يومين، أو نوبتين وخلق في كل نوبة ما خلق في أسرع ما يكون‏.‏ ولعل المراد من ‏{‏الأرض‏}‏ ما في جهة السفل من الأجرام البسيطة ومن خلقها ‏{‏فِى يَوْمَيْنِ‏}‏ أنه خلق لها أصلاً مشتركاً ثم خلق لها صوراً بها صارت أنواعاً، وكفرهم به إلحادهم في ذاته وصفاته‏.‏ ‏{‏وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً‏}‏ ولا يصح أن يكون له ند‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ الذي ‏{‏خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ‏}‏‏.‏ ‏{‏رَبّ العالمين‏}‏ خالق جميع ما وجد من الممكنات ومربيها‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ‏}‏ استئناف غير معطوف على ‏{‏خَلقَ‏}‏ للفصل بما هو خارج عن الصلة‏.‏ ‏{‏مّن فَوْقِهَا‏}‏ مرتفعة عليها ليظهر للنظار ما فيها من وجوه الاستبصار وتكون منافعها معرضة للطلاب‏.‏ ‏{‏وبارك فِيهَا‏}‏ وأكثر خيرها بأن خلق فيها أنواع النبات والحيوان‏.‏ ‏{‏وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها‏}‏ أقوات أهلها بأن عين لكل نوع ما يصلحه ويعيش به، أو أقواتاً تنشأ منها بأن خص حدوث كل قوت بقطر من أقطارها، وقرئ «وقسم فِيهَا أقواتها»‏.‏ ‏{‏فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ‏}‏ في تتمة أربعة أيام كقولك‏:‏ سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وإلى الكوفة في خمسة عشر يوماً‏.‏ ولعله قال ذلك ولم يقل في يومين للإِشعار باتصالهما باليومين الأولين‏.‏ والتصريح على الفذلكة‏.‏ ‏{‏سَوَاءٌ‏}‏ أي استوت سواء بمعنى استواء، والجملة صفة أيام ويدل عليه قراءة يعقوب بالجر‏.‏ وقيل حال من الضمير في أقواتها أو في فيها، وقرئ بالرفع على هي سواء‏.‏ ‏{‏لّلسَّائِلِينَ‏}‏ متعلق بمحذوف تقديره هذا الحصر للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها، أو بقدر أي قدر فيها الأقوات للطالبين لها‏.‏

‏{‏ثُمَّ استوى إِلَى السماء‏}‏ قصد نحوها من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجهاً لا يلوي على غيره، والظاهر أن ثم لتفاوت ما بين الخلقتين لا للتراخي في المدة لقوله‏:‏ ‏{‏والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها‏}‏ ودحوها متقدم على خلق الجبال من فوقها‏.‏ ‏{‏وَهِىَ دُخَانٌ‏}‏ أمر ظلماني، ولعله أراد به مادتها أو الأجزاء المتصغرة التي كتب منها ‏{‏فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا‏}‏ بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وأبرزا ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة‏.‏ أو ‏{‏ائتيا‏}‏ في الوجود على أن الخلق السابق بمعنى التقدير أو الترتيب للرتبة، أو الإِخبار أو إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة، وقد عرفت ما فيه أو لتأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما ويؤيده قراءة «آتيا» في المؤاتاة أي لتوافق كل واحدة أختها فيما أردت منكما‏.‏ ‏{‏طَوْعاً أَوْ كَرْهاً‏}‏ شئتما ذلك أو أبيتما والمراد إظهار كمال قدرته ووجوب وقوع مراده لا إثبات الطوع والكره لهما، وهما مصدران وقعا موقع الحال‏.‏ ‏{‏قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ منقادين بالذات، والأظهر أن المراد تصوير تأثير قدرته فيهما وتأثرهما بالذات عنها، وتمثيلهما بأمر المطاع وإجابة المطيع الطائع كقوله‏:‏ ‏{‏كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ وما قيل من أنه تعالى خاطبهما وأقدرهما على الجواب إنما يتصور على الوجه الأول والأخير، وإنما قال طائعين على المعنى باعتبار كونهما مخاطبتين كقوله‏:‏ ‏{‏ساجدين‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 22‏]‏

‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏12‏)‏ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ‏(‏13‏)‏ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏15‏)‏ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏16‏)‏ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏17‏)‏ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏18‏)‏ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏19‏)‏ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏20‏)‏ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات‏}‏ فخلقهن خلقاً إبداعياً وأتقن أمرهن، والضمير ل ‏{‏السماء‏}‏ على المعنى أو مبهم، و‏{‏سَبْعَ سموات‏}‏ حال على الأول وتمييز على الثاني‏.‏ ‏{‏فِى يَوْمَيْنِ‏}‏ قيل خلق السموات يوم الخميس والشمس والقمر والنجوم يوم الجمعة‏.‏ ‏{‏وأوحى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا‏}‏ شأنها وما يتأتى منها بأن حملها عليه اختياراً أو طبعاً‏.‏ وقيل أوحى إلى أهلها بأوامره ونواهيه‏.‏ ‏{‏وَزَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح‏}‏ فإن الكواكب كلها ترى كأنها تتلألأ عليها‏.‏ ‏{‏وَحِفْظاً‏}‏ أي وحفظناها من الآفات، أو من المسترقة حفظاً‏.‏ وقيل مفعول له على المعنى كأنه قال‏:‏ وخصصنا السماء الدنيا بمصابيح زينة وحفظاً‏.‏ ‏{‏ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم‏}‏ البالغ في القدرة والعلم‏.‏

‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُواْ‏}‏ عن الإِيمان بعد هذا البيان‏.‏ ‏{‏فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صاعقة‏}‏ فحذرهم أن يصيبهم عذاب شديد الوقع كأنه صاعقة‏.‏ ‏{‏مِّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ‏}‏ وقرئ «صعقة مثل صعقة عاد وثمود» وهي المرة من الصعق أو الصعق يقال صعقته الصاعقة صعقاً فصعق صعقاً‏.‏

‏{‏إِذْ جَاءَتْهُمُ الرسل‏}‏ حال من ‏{‏صاعقة عَادٍ‏}‏، ولا يجوز جعله صفة ل ‏{‏صاعقة‏}‏ أو ظرفاً ل ‏{‏أَنذَرْتُكُمْ‏}‏ لفساد المعنى‏.‏ ‏{‏مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ أتوهم من جميع جوانبهم واجتهدوا بهم من كل جهة، أو من جهة الزمن الماضي بالإنذار عما جرى فيه على الكفار، ومن جهة المستقبل بالتحذير عما أعد لهم في الآخرة، وكل من اللفظين يحتملهما، أو من قبلهم ومن بعدهم إذ قد بلغتهم خبر المتقدمين وأخبرهم هود وصالح عن المتأخرين داعين إلى الإِيمان بهم أجمعين، ويحتمل أن يكون عبارة عن الكثرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ‏}‏ ‏{‏أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله‏}‏ بأن لا تعبدوا أو أي لا تعبدوا‏.‏ ‏{‏قَالُواْ لَوْ شَاء رَبُّنَا‏}‏ إرسال الرسل‏.‏ ‏{‏لأَنزَلَ ملائكة‏}‏ برسالته‏.‏ ‏{‏فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ‏}‏ على زعمكم‏.‏ ‏{‏كافرون‏}‏ إذ أنتم بشر مثلنا لا فضل لَكُمْ علينا‏.‏

‏{‏فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِى الأرض بِغَيْرِ الحق‏}‏ فتعظموا فيها على أهلها من غير استحقاق‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً‏}‏ اغتراراً بقوتهم وشوكتهم‏.‏ قيل كان من قوتهم أن الرجل منهم ينزع الصخرة فيقتلعها بيده‏.‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً‏}‏ قدرة فإنه قادر بالذات مقتدر على ما لا يتناهى، قوي على ما لا يقدر عليه أحد غيره‏.‏ ‏{‏وَكَانُواْ بئاياتنا يَجْحَدُونَ‏}‏ يعرفون أنها حق وينكرونها وهو عطف على ‏{‏فاستكبروا‏}‏‏.‏

‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً‏}‏ باردة تهلك بشدة بردها من الصر وهو البرد الذي يصر أي يجمع، أو شديدة الصوت في هبوبها من الصرير‏.‏ ‏{‏فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ‏}‏ جمع نحسة من نحس نحساً نقيص سعد سعداً، وقرأ الحجازيان والبصريان بالسكون على التخفيف أو النعت على فعل، أو الوصف بالمصدر قيل كان آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء وما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء‏.‏

‏{‏لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزى فِى الحياة الدنيا‏}‏ أضاف ال ‏{‏عَذَابِ‏}‏ إلى ‏{‏الخزى‏}‏ وهو الذل على قصد وصفة به لقوله‏:‏ ‏{‏وَلَعَذَابُ الأخرة أخزى‏}‏ وهو في الأصل صفة المعذب وإنما وصف به العذاب على الإِسناد المجازي للمبالغة‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ‏}‏ بدفع العذاب عنهم‏.‏

‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم‏}‏ فدللناهم على الحق بنصب الحجج وإرسال الرسل، وقرئ ‏{‏ثَمُودَ‏}‏ بالنصب بفعل مضمر يفسره ما بعده ومنوناً في الحالين وبضم الثاء‏.‏ ‏{‏فاستحبوا العمى عَلَى الهدى‏}‏ فاختاروا الضلالة على الهدى‏.‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمْ صاعقة العذاب الهون‏}‏ صاعقة من السماء فأهلكتهم، وإضافتها إلى ‏{‏العذاب‏}‏ ووصفه ب ‏{‏الهون‏}‏ للمبالغة‏.‏ ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ من اختيار الضلالة‏.‏

‏{‏وَنَجَّيْنَا الذين ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ‏}‏ من تلك الصاعقة‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ الله إِلَى النار‏}‏ وقرئ«يَحْشُرُ» على البناء للفاعل وهو الله عز وجل‏.‏ وقرأ نافع«نَحْشُرُ» بالنون مفتوحة وضم الشين ونصب ‏{‏أَعْدَاء‏}‏‏.‏ ‏{‏فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏ يحبس أولهم على آخرهم لئلا يتفرقوا وهو عبارة عن كثرة أهل النار‏.‏

‏{‏حتى إِذَا مَا جَاؤُوهَا‏}‏ إذا حضروها و‏{‏مَا‏}‏ مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور‏.‏ ‏{‏شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبصارهم وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ بأن ينطقها الله تعالى، أو يظهر عليها آثاراً تدل على ما اقترف بها فتنطق بلسان الحال‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا‏}‏ سؤال توبيخ أو تعجب، ولعل المراد به نفس التعجب‏.‏ ‏{‏قَالُواْ أَنطَقَنَا الله الذى أَنطَقَ كُلَّ شَئ‏}‏ أي ما نطقنا باختيارنا بل أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء، أو ليس نطقنا بعجب من قدرة الله الذي أنطق كل حي، ولو أول الجواب والنطق بدلالة الحال بقي الشيء عاماً في الموجودات الممكنة‏.‏ ‏{‏وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ يحتمل أن يكون تمام كلام الجلود وأن يكون استئنافاً‏.‏

‏{‏وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ سَمْعُكُمْ وَلاَ أبصاركم وَلاَ جُلُودُكُمْ‏}‏ أي كنتم تستترون عن الناس عند ارتكاب الفواحش مخافة الفضاحة، وما ظننتم أن أعضاءكم تشهد عليكم بها فما استترتم عنها‏.‏ وفيه تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن يتحقق أنه لا يمر عليه حال إلا وهو عليه رقيب‏.‏ ‏{‏ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ فلذلك اجترأتم على ما فعلتم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 35‏]‏

‏{‏وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏23‏)‏ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ‏(‏24‏)‏ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏25‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ‏(‏26‏)‏ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏27‏)‏ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏28‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ‏(‏29‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏30‏)‏ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ‏(‏31‏)‏ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ‏(‏32‏)‏ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏33‏)‏ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ‏(‏34‏)‏ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏وَذَلِكُمْ‏}‏ إشارة إلى ظنهم هذا، وهو مبتدأ وقوله‏:‏ ‏{‏ظَنُّكُمْ الذى ظَنَنتُمْ بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ‏}‏ خبران له ويجوز أن يكون ‏{‏ظَنُّكُمُ‏}‏ بدلاً و‏{‏أَرْدَاكُمْ‏}‏ خبراً‏.‏ ‏{‏فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ الخاسرين‏}‏ إذ صار ما منحوا للاستسعاد به في الدارين سبباً لشقاء المنزلين‏.‏

‏{‏فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ‏}‏ لا خلاص لهم عنها‏.‏ ‏{‏وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ‏}‏ يسألوا العتبى وهي الرجوع إلى ما يحبون‏.‏ ‏{‏فَمَا هُم مّنَ المعتبين‏}‏ المجابين إليها ونظيره قوله تعالى حكاية ‏{‏أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ‏}‏ وقرئ ‏{‏وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ المعتبين‏}‏، أي إن يسألوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون لفوات المكنة‏.‏

‏{‏وَقَيَّضْنَا‏}‏ وقدرنا‏.‏ ‏{‏لَهُمْ‏}‏ للكفرة‏.‏ ‏{‏قُرَنَاءَ‏}‏ أخدانا من الشياطين يستولون عليهم استيلاء القبض على البيض وهو القشر‏.‏ وقيل أصل القيض البدل ومنه المقايضة لمعاوضة‏.‏ ‏{‏فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ من أمر الدنيا واتباع الشهوات‏.‏ ‏{‏وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ مِنْ أمر الآخرة وإنكاره‏.‏ ‏{‏وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول‏}‏ أي كلمة العذاب‏.‏ ‏{‏فِى أُمَمٍ‏}‏ في جملة أمم كقول الشاعر‏:‏

إِنْ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الصَّنِيعَةِ مَأ *** فُوكاً فِفِي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا

وهو حال من الضمير المجرور‏.‏ ‏{‏وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الجن والإنس‏}‏ وقد عملوا مثل أعمالهم‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين‏}‏ تعليل لاستحقاقهم العذاب، والضمير ‏{‏لَهُمْ‏}‏ ولل ‏{‏أُمَمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان والغوا فِيهِ‏}‏ وعارضوه بالخرافات أو ارفعوا أصواتكم بها لتشوشوه على القارئ، وقرئ بضم الغين والمعنى واحد يقال لغى يلغي ولغا يلغو إذا هذى‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ‏}‏ أي تغلبونه على قراءته‏.‏

‏{‏فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً‏}‏ المراد بهم هؤلاء القائلون، أو عامة الكفار‏.‏ ‏{‏وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ سيئات أعمالهم وقد سبق مثله‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏‏:‏ إشارة إلى الأسوأ‏.‏ ‏{‏جَزَاءُ أَعْدَاءِ الله‏}‏ خبره‏.‏ ‏{‏النار‏}‏ عطف بيان لل ‏{‏جَزَاء‏}‏ أو خبر محذوف‏.‏ ‏{‏لَّهُمْ فِيهَا‏}‏ في النار‏.‏ ‏{‏دَارُ الخُلْدِ‏}‏ فإنها دار إقامتهم، وهو كقولك‏:‏ في هذه الدار دار سرور، وتعني بالدار عينها على أن المقصود هو الصفة‏.‏ ‏{‏جَزَاءً بِمَا كَانُوا بئاياتنا يَجْحَدُونَ‏}‏ ينكرون الحق أو يلغون، وذكر الجحود الذي هو سبب اللغو‏.‏

‏{‏وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَا أَرِنَا اللذين أضلانا مِنَ الجن والإنس‏}‏ يعني شيطاني النوعين الحاملين على الضلالة والعصيان‏.‏ وقيل هما إبليس وقابيل فإنهما سنا الكفر والقتل، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وأبو بكر والسوسي ‏{‏أَرِنَا‏}‏ بالتخفيف كفخذ في فخذ، وقرأ الدوري باختلاس كسرة الراء‏.‏ ‏{‏نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا‏}‏ ندوسهما انتقاماً منهما، وقيل نجعلهما في الدرك الأسفل‏.‏ ‏{‏لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين‏}‏ مكاناً أو ذلاً‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله‏}‏ اعترافاً بربوبيته وإقراراً بوحدانيته‏.‏

‏{‏ثُمَّ استقاموا‏}‏ في العمل و‏{‏ثُمَّ‏}‏ لتراخيه عن الإِقرار في الرتبة من حيث أنه مبدأ الاستقامة، أو لأنها عسر قلما تتبع الإِقرار، وما روي عن الخلفاء الراشدين في معنى الاستقامة من الثبات على الإِيمان وإخلاص العمل وأداء الفرائض فجزئياتها‏.‏ ‏{‏تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة‏}‏ فيما يعن لهم بما يشرح صدورهم ويدفع عنهم الخوف والحزن، أو عند الموت أو الخروج من القبر‏.‏ ‏{‏أَلاَّ تَخَافُواْ‏}‏ ما تقدمون عليه‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَحْزَنُواْ‏}‏ على ما خلفتم وأن مصدرية أو مخففة مقدرة بالباء أو مفسرة‏.‏ ‏{‏وَأَبْشِرُواْ بالجنة التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ في الدنيا على لسان الرسل‏.‏

‏{‏نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا‏}‏ نلهمكم الحق ونحملكم على الخير بدل ما كانت الشياطين تفعل بالكفرة‏.‏ ‏{‏وَفِي الأخرة‏}‏ بالشفاعة والكرامة حيثما يتعادى الكفرة وقرناؤهم‏.‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا‏}‏ في الآخرة ‏{‏مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ‏}‏ من اللذائذ ‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ‏}‏ ما تتمنون من الدعاء بمعنى الطلب وهو أعم من الأول‏.‏

‏{‏نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ‏}‏ حال من ما تدعون للإشعار بأن ما يتمنون بالنسبة إلى ما يعطون مما لا يخطر ببالهم كالنزل للضيف‏.‏

‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى الله‏}‏ إلى عبادته‏.‏ ‏{‏وَعَمِلَ صالحا‏}‏ فيما بينه وبين ربه‏.‏ ‏{‏وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ المسلمين‏}‏ تفاخراً به واتخاذاً للإسلام ديناً ومذهباً من قولهم‏:‏ هذا قول فلان لمذهبه‏.‏ والآية عامة لمن استجمع تلك الصفات‏.‏ وقيل نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وقيل في المؤذنين‏.‏

‏{‏وَلاَ تَسْتَوِى الحسنة وَلاَ السيئة‏}‏ في الجزاء وحسن العاقبة و‏{‏لا‏}‏ الثانية مزيدة لتأكيد النفي‏.‏ ‏{‏ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ ادفع السيئة حيث اعترضتك بالتي هي أحسن منها وهي الحسنة على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقاً، أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات، وإنما أخرجه مخرج الاستئناف على أنه جواب من قال؛ كيف أصنع‏؟‏ للمبالغة ولذلك وضع ‏{‏أَحْسَنُ‏}‏ موضع الحسنة‏.‏ ‏{‏فَإِذَا الذى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ‏}‏ أي إذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق مثل الولي الشفيق‏.‏

‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَا‏}‏ وما يلقى هذه السجية وهي مقابلته الإِساءة بالإحسان‏.‏ ‏{‏إِلاَّ الذين صَبَرُواْ‏}‏ فَإِنها تحبس النفس عن الانتقام‏.‏ ‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ‏}‏ من الخير وكمال النفس وقيل الحظ الجنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 45‏]‏

‏{‏وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏36‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏37‏)‏ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ‏(‏38‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏40‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ‏(‏41‏)‏ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ‏(‏42‏)‏ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏43‏)‏ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏44‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان‏}‏ نخس شبه به وسوسته لأنها تبعث الإِنسان على ما لا ينبغي كالدفع بما هو أسوأ، وجعل النزغ نازغاً على طريقة جديدة، أو أريد به نازغ وصفاً للشيطان بالمصدر‏.‏ ‏{‏فاستعذ بالله‏}‏ من شره ولا تطعه‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ السميع‏}‏ لاستعاذتك‏.‏ ‏{‏العليم‏}‏ بنيتك أو بصلاحك‏.‏

‏{‏وَمِنْ ءاياته اليل والنهار والشمس والقمر لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ‏}‏ لأنهما مخلوقان مأموران مثلكم‏.‏ ‏{‏واسجدوا لِلَّهِ الذى خَلَقَهُنَّ‏}‏ الضمير للأربعة المذكورة، والمقصود تعليق الفعل بهما إشعاراً بأنهما من عداد ما لا يعلم ولا يختار‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ فإن السجود أخص العبادات وهو موضع السجود عندنا لاقتران الأمر به، وعند أبي حنيفة آخر الآية الأخرى لأنه تمام المعنى‏.‏

‏{‏فَإِنِ استكبروا‏}‏ عن الامتثال‏.‏ ‏{‏فالذين عِندَ رَبّكَ‏}‏ من الملائكة‏.‏ ‏{‏يُسَبّحُونَ لَهُ بالليل والنهار‏}‏ أي دائماً لقوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ‏}‏ أي لا يملون‏.‏

‏{‏وَمِنْ ءاياته أَنَّكَ تَرَى الأرض خاشعة‏}‏ يابسة متطامنة مستعار من الخشوع بمعنى التذلل‏.‏ ‏{‏فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ‏}‏ تزخرفت وانتفخت بالنبات، وقرئ «ربأت» أي زادت‏.‏ ‏{‏إِنَّ الذى أحياها‏}‏ بعد موتها‏.‏ ‏{‏لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ من الإِحياء والإِماتة‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ‏}‏ يميلون عن الاستقامة‏.‏ ‏{‏فِي ءَايَاتِنَا‏}‏ بالطعن والتحريف والتأويل الباطل والإِلغاء فيها‏.‏ ‏{‏لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا‏}‏ فنجازيهم على إلحادهم‏.‏ ‏{‏أَفَمَن يُلْقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ أَم مَن يَأَتِي آمِناً يَوْمَ القِيَامَةِ‏}‏ قابل الإِلقاء في النار بالإِتيان آمناً مبالغة في إحماد حال المؤمنين‏.‏ ‏{‏اعملوا مَا شِئْتُمْ‏}‏ تهديد شديد‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ وعيد بالمجازاة‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر لَمَّا جَاءَهُمْ‏}‏ بدل من قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ فِى ءاياتنا‏}‏ أو مستأنف وخبر ‏{‏إِن‏}‏ محذوف مثل معاندون أو هالكون، أو ‏{‏أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ‏}‏ و«الذكر» القرآن‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لكتاب عَزِيزٌ‏}‏ كثير النفع عديم النظير أو منيع لا يتأتى إبطاله وتحريفه‏.‏

‏{‏لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ‏}‏ لا يتطرق إليه الباطل من جهة من الجهات أو مما فيه من الأخبار الماضية والأمور الآتية‏.‏ ‏{‏تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ‏}‏ أي حكيم‏.‏ ‏{‏حَمِيدٍ‏}‏ يحمده كل مخلوق بما ظهر عليه من نعمه‏.‏

‏{‏مَّا يُقَالُ لَكَ‏}‏ أي ما يقول لك كفار قومك‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ‏}‏ إلا مثل ما قال لهم كفار قومهم، ويجوز أن يكون المعنى ما يقول الله لك إلا مثل ما قال لهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ‏}‏ لأنبيائه‏.‏ ‏{‏وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ لأعدائهم، وهو على الثاني يحتمل أن يكون المقول بمعنى أن حاصل ما أوحي إليك وإليهم، وعد المؤمنين بالمغفرة والكافرين بالعقوبة‏.‏

‏{‏وَلَوْ جعلناه قُرْءاناً أعْجَمِيّاً‏}‏ جواب لقولهم‏:‏ هلا أنزل القرآن بلغة العجم والضمير «للذكر»‏.‏ ‏{‏لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءاياته‏}‏ بينت بلسان نفقهه‏.‏ ‏{‏ءأَعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ‏}‏ أكلام أعجمي ومخاطب عربي إنكار مقرر للتخصيص، والأعجمي يقال للذي لا يفهم كلامه‏.‏ وهذا قراءة أبي بكر وحمزة والكسائي، وقرأ قالون وأبو عمرو بالمد والتسهيل وورش بالمد وإبدال الثانية ألفاً، وابن كثير وابن ذكوان وحفص بغير المد بتسهيل الثانية وقرئ «أعجمي» وهو منسوب إلى العجم، وقرأ هشام «أعجمي» على الإِخبار، وعلى هذا يجوز أن يكون المراد هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجمياً لإِفهام العجم وبعضها عربياً لإِفهام العرب، والمقصود إبطال مقترحهم باستلزامه المحذور، أو للدلالة على أنهم لا ينفكون عن التعنت في الآيات كيف جاءت‏.‏ ‏{‏قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى‏}‏ إلى الحق‏.‏ ‏{‏وَشِفَاءٌ‏}‏ لما في الصدور في الشك والشبه ‏{‏والذين لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ مبتدأ خبره‏.‏ ‏{‏فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ‏}‏ على تقدير هو في ‏{‏آذَانِهِمْ وَقْرٌ‏}‏ لقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى‏}‏ وذلك لتصامهم عن سماعه وتعاميهم عما يريهم من الآيات، ومن جوز العطف على عاملين مختلفين عطف ذلك على ‏{‏لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى‏}‏‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ‏}‏ أي صم، وهو تمثيل لهم في عدم قبولهم الحق واستماعهم له بمن يصاح به من مسافة بعيدة‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ‏}‏ بالتصديق والتكذيب كما اختلف في القرآن‏.‏ ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ‏}‏ وهي العدة بالقيامة وفصل الخصومة حينئذ، أو تقدير الآجال‏.‏ ‏{‏لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ‏}‏ باستئصال المكذبين‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ‏}‏ وإن اليهود أو ‏{‏الذين لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏ ‏{‏لَفِى شَكّ مّنْهُ‏}‏ من التوراة أو القرآن‏.‏ ‏{‏مُرِيبٌ‏}‏ موجب للاضطراب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 54‏]‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏46‏)‏ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ‏(‏47‏)‏ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏48‏)‏ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ‏(‏49‏)‏ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏50‏)‏ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ‏(‏51‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏52‏)‏ سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏53‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ‏}‏ نفعه‏.‏ ‏{‏وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا‏}‏ ضره‏.‏ ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ‏}‏ فيفعل بهم ما ليس له أن يفعله‏.‏

‏{‏إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة‏}‏ أي إذا سئل عنها إذ لا يعلمها إلا هو‏.‏ ‏{‏وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَةٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا‏}‏ من أوعيتها جمع كم بالكسر‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وحفص «مِن ثمرات» بالجمع لاختلاف الأنواع، وقرئ بجمع الضمير أيضاً و‏{‏مَا‏}‏ نافية و‏{‏مِنْ‏}‏ الأولى مزيدة للاستغراق، ويحتمل أن تكون موصولة معطوفة على ‏{‏الساعة‏}‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ مبينة بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ‏}‏ بِمكان‏.‏ ‏{‏إِلاَّ بِعِلْمِهِ‏}‏ إلا مقروناً بعلمه واقعاً حسب تعلقه به‏.‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِى‏}‏ بزعمكم‏.‏ ‏{‏قَالُواْ ءَاذَنَّاكَ‏}‏ أعلمناك‏.‏ ‏{‏مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ‏}‏ من أحد يشهد لهم بالشركة إذ تبرأنا عنهم لما عاينا الحال فيكون السؤال عنهم للتوبيخ، أو من أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنا‏.‏ وقيل هو قول الشركاء أي ما منا من يشهد لهم بأنهم كانوا محقين‏.‏

‏{‏وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ‏}‏ يعبدون‏.‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ لا ينفعهم أو لا يرونه‏.‏ ‏{‏وَظَنُّواْ‏}‏ وأيقنوا‏.‏ ‏{‏مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ‏}‏ مهرب والظن معلق عنه بحرف النفي‏.‏

‏{‏لاَّ يَسْئَمُ الإنسان‏}‏ لا يمل‏.‏ ‏{‏مِن دُعَاءِ الخير‏}‏ من طلب السعة في النعمة، وقرئ «من دعاء بالخير»‏.‏ ‏{‏وَإِن مَّسَّهُ الشر‏}‏ الضيقة‏.‏ ‏{‏فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ‏}‏ من فضل الله ورحمته وهذا صفة الكافر لقوله‏:‏ ‏{‏إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون‏}‏ وقد بولغ في يأسه من جهة البنية والتكرير وما في القنوط من ظهور أثر اليأس‏.‏

‏{‏وَلَئِنْ أذقناه رَحْمَةً مّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ‏}‏ بتفريجها عنه‏.‏ ‏{‏لَيَقُولَنَّ هذا لِى‏}‏ حقي أستحقه لمالي من الفضل والعمل، أولي دائماً لا يزول‏.‏ ‏{‏وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً‏}‏ تقوم‏.‏ ‏{‏وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى‏}‏ أي ولئن قامت على التوهم كان لي عند الله الحالة الحسنى من الكرامة، وذلك لاعتقاده أن ما أصابه من نعم الدنيا فلاستحقاق لا ينفك عنه‏.‏ ‏{‏فَلَنُنَبّئَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ فلنخبرنهم‏.‏ ‏{‏بِمَا عَمِلُواْ‏}‏ بحقيقة أعمالهم ولنبصرنهم عكس ما اعتقدوا فيها‏.‏ ‏{‏وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ لا يمكنهم التقصي عنه‏.‏

‏{‏وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ‏}‏ عن الشكر‏.‏ ‏{‏وَنَأَى بِجَانِبِهِ‏}‏ وانحرف عنه أو ذهب بنفسه وتباعد عنه بكليته تكبراً، والجانب مجاز عن النفس كالجنب في قوله‏:‏ ‏{‏فِى جَنبِ الله‏}‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ‏}‏ كثير مستعار مما له عرض متسع للاشعار بكثرته واستمراره، وهو أبلغ من الطويل إذ الطول أطول الامتدادين، فإذا كان عرضه كذلك فما ظنك بطوله‏؟‏

‏{‏قُلْ أَرَءَيْتُمْ‏}‏ أخبروني‏.‏

‏{‏إِن كَانَ‏}‏ أي القرآن‏.‏ ‏{‏مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ‏}‏ من غير نظر واتباع دليل‏.‏ ‏{‏مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ‏}‏ أي من أضل منكم، فوضع الموصول موضع الضمير شرحاً لحالهم وتعليلاً لمزيد ضلالهم‏.‏

‏{‏سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الأفاق‏}‏ يعني ما أخبرهم النبي عليه الصلاة والسلام به من الحوادث الآتية وآثار النوازل الماضية، وما يسر الله له ولخلفائه من الفتوح والظهور على ممالك الشرق والغرب على وجه خارق للعادة‏.‏ ‏{‏وَفِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ ما ظهر فيما بين أهل مكة وما حل بهم، أو ما في بدن الإنسان من عجائب الصنع الدالة على كمال القدرة‏.‏ ‏{‏حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق‏}‏ الضمير للقرآن أو الرسول أو التوحيد أو الله ‏{‏أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ‏}‏ أي أو لم يَكف ربك، والفاء مزيدة للتأكيد كأنه قيل‏:‏ أو لم تحصل الكفاية به ولا تكاد تزاد في الفاعل إلا مع كفى‏.‏ ‏{‏أَنَّهُ على كُلّ شَئ شَهِيدٌ‏}‏ بدل منه، والمعنى أو لم يكفك أنه تعالى على كل شيء شهيد محقق له فيحقق أمرك بإظهار الآيات الموعودة كما حقق سائر الأشياء الموعودة، أو مطلع فيعلم حالك وحالهم، أو لم يكف الإنسان رادعاً عن المعاصي أنه تعالى مطلع على كل شيء لا يخفى عليه خافية‏.‏

‏{‏أَلاَ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ‏}‏ شك، وقرئ بالضم وهو لغة كخفية وخفية‏.‏ ‏{‏مّن لّقَاء رَبّهِمْ‏}‏ بالبعث والجزاء‏.‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّهُ بِكُلّ شَئ مُّحِيطُ‏}‏ عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها، مقتدر عليها لا يفوته شيء منها‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قرأ سورة السجدة أعطاه الله بكل حرف عشر حسنات»‏.‏

سورة الشورى

مكية وهي ثلاث وخمسون آية وتسمى سورة «الشورى»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ عسق ‏(‏2‏)‏ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏3‏)‏ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ‏(‏4‏)‏ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏5‏)‏ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏6‏)‏ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ‏(‏7‏)‏ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏8‏)‏ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏9‏)‏ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏حَمَ‏}‏‏.‏ ‏{‏عَسَقَ‏}‏ لعله اسمان للسورة ولذلك فصل بينهما وعدا آيتين، وإن كانا اسماً واحداً فالفصل ليطابق سائر الحواميم، وقرئ «حم سق»‏.‏

‏{‏كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ الله العزيز الحكيم‏}‏ أي مثل ما في هذه السورة من المعاني، أو إيحاء مثل إيحائها أوحى الله إليك وإلى الرسل من قبلك، وإنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية للدلالة على استمرار الوحي وأن إيحاء مثله عادته، وقرأ ابن كثير «يُوحَى» بالفتح على أن كذلك مبتدأ و«يُوحَى» خبره المسند إلى ضميره، أو مصدر و«يُوحَى» مسند إلى إليك، و‏{‏الله‏}‏ مرتفع بما دل عليه «يُوحَى»، و‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ صفتان له مقررتان لعلو شأن الموحى به كما مر في السورة السابقة، أو بالابتداء كما في قراءة «نوحي» بالنون و‏{‏العزيز‏}‏ وما بعده أخبار أو ‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ صفتان‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العلى العظيم‏}‏ خبران له وعلى الوجوه الأخر استئناف مقرر لعزته وحكمته‏.‏

‏{‏تَكَادُ السموات‏}‏ وقرأ نافع والكسائي بالياء‏.‏ ‏{‏يَتَفَطَّرْنَ‏}‏ يتشققن من عظمة الله، وقيل من ادعاء الولد له‏.‏ وقرأ البصريان وأبو بكر «ينفطرن» بالنون والأول أبلغ لأنه مطاوع فطر وهذا مطاوع فطر، وقرئ «تتفطرن» بالتاء لتأكيد التأنيث وهو نادر‏.‏ ‏{‏مِن فَوْقِهِنَّ‏}‏ أي يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية، وتخصيصها على الأول لأن أعظم الآيات وأدلها على علو شأنه من تلك الجهة، وعلى الثاني ليدل على الانفطار من تحتهن بالطريق الأولى‏.‏ وقيل الضمير للأرض فإن المراد بها الجنس‏.‏ ‏{‏والملائكة يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الأرض‏}‏ بالسعي فيما يستدعي مغفرتهم من الشفاعة والإِلهام وإعداد الأسباب المقربة إلى الطاعة، وذلك في الجملة يعم المؤمن والكافر بل لو فسر الاستغفار بالسعي فيما يدفع الخلل المتوقع عم الحيوان بل الجماد، وحيث خص بالمؤمنين فالمراد به الشفاعة‏.‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم‏}‏ إذ ما من مخلوق إلا وهو ذو حظ من رحمته، والآية على الأول زيادة تقرير لعظمته وعلى الثاني دلالة على تقدسه عما نسب إليه، وإن عدم معاجلتهم بالعقاب على تلك الكلمة الشنعاء باستغفار الملائكة وفرط غفران الله ورحمته‏.‏

‏{‏والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ‏}‏ شركاء وأنداداً‏.‏ ‏{‏الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ رقيب على أحوالهم وأعمالهم فيجازيهم بها‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ‏}‏ يا محمد‏.‏ ‏{‏عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ‏}‏ بموكل بهم أو بموكول إليك أمرهم‏.‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءاناً عَرَبِيّاً‏}‏ الإِشارة إلى مصدر ‏{‏يُوحِى‏}‏ أو إلى معنى الآية المتقدمة، فإنه مكرر في القرآن في مواضع جمة فتكون الكاف مفعولاً به و‏{‏قُرْءاناً عَرَبِيّاً‏}‏ حال منه‏.‏

‏{‏لّتُنذِرَ أُمَّ القرى‏}‏ أهل أم القرى وهي مكة شرفها الله تعالى‏.‏ ‏{‏وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ من العرب‏.‏ ‏{‏وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع‏}‏ يوم القيامة يجمع فيه الخلائق أو الأرواح أو الأشباح، أو العمال والأعمال وحذف ثاني مفعول الأول وأول مفعولي الثاني للتهويل وإيهام التعميم، وقرئ «لينذر» بالياء والفعل «للقرآن»‏.‏ ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ اعتراض لا محل له من الإعراب‏.‏ ‏{‏فَرِيقٌ فِى الجنة وَفَرِيقٌ فِى السعير‏}‏ أي بعد جمعهم في الموقف يجمعون أولاً ثم يفرقون، والتقدير منهم فريق والضمير للمجموعين لدلالة الجمع عليه، وقرئا منصوبين على الحال منهم أي وتنذر يوم جمعهم متفرقين بمعنى مشارفين للتفرق، أو متفرقين في داري الثواب والعقاب‏.‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحدة‏}‏ مهتدين أو ضالين‏.‏ ‏{‏ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِى رَحْمَتِهِ‏}‏ بالهداية والحمل على الطاعة‏.‏ ‏{‏والظالمون مَا لَهُمْ مّن وَلِىّ وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏ أي يدعهم بغير ولي ولا نصير في عذابه، ولعل تغيير المقابلة للمبالغة في الوعيد إذ الكلام في الإِنذار‏.‏

‏{‏أَمِ اتخذوا‏}‏ بل اتخذوا‏.‏ ‏{‏مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ‏}‏ كالأصنام‏.‏ ‏{‏فالله هُوَ الولى‏}‏ جواب لشرط محذوف مثل إن أرادوا أولياء بحق فالله هو الولي بالحق‏.‏ ‏{‏وَهُوَ يُحْيِى الموتى وَهُوَ على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ كالتقرير لكونه حقيقاً بالولاية‏.‏

‏{‏وَمَا اختلفتم‏}‏ أنتم والكفار‏.‏ ‏{‏فِيهِ مِن شَئ‏}‏ من أمر من أمور الدنيا أو الدين‏.‏ ‏{‏فَحُكْمُهُ إِلَى الله‏}‏ مفوض إليه يميز المحق من المبطل بالنصر أو بالإثابة والمعاقبة‏.‏ وقيل ‏{‏وَمَا اختلفتم فِيهِ‏}‏ من تأويل متشابه فارجعوا فيه إلى المحكم من كتاب الله‏.‏ ‏{‏ذَلِكُمُ الله رَبّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ‏}‏ في مجامع الأمور‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ إليه أرجع في المعضلات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 19‏]‏

‏{‏فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏11‏)‏ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏12‏)‏ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ‏(‏13‏)‏ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏14‏)‏ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏15‏)‏ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ‏(‏16‏)‏ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ‏(‏17‏)‏ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ‏(‏18‏)‏ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏فَاطِرُ السموات والأرض‏}‏ خبر آخر ل ‏{‏ذلكم‏}‏ أو مبتدأ خبره‏.‏ ‏{‏جَعَلَ لَكُمُ‏}‏ وقرئ بالجر على البدل من الضمير أو الوصف لإلى الله‏.‏ ‏{‏مّنْ أَنفُسِكُمْ‏}‏ من جنسكم‏.‏ ‏{‏أزواجا‏}‏ نساء‏.‏ ‏{‏وَمِنَ الأنعام أزواجا‏}‏ أي وخلق للأنعام من جنسها أزواجاً، أو خلق لكم منَّ الأنعام أصنافاً أو ذكوراً وأناثاً‏.‏ ‏{‏يَذْرَؤُكُمْ‏}‏ يكثركم من الذرء وهو البث وفي معناه الذر والذرو والضمير على الأول للناس، و‏{‏الأنعام‏}‏ على تغليب المخاطبين العقلاء‏.‏ ‏{‏فِيهِ‏}‏ في هذا التدبير وهو جعل الناس والأنعام أزواجاً يكون بينهم توالد، فإنه كالمنبع للبث والتكثير‏.‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئ‏}‏ أي ليس مثله شيء يزاوجه ويناسبه، والمراد من مثله ذاته كما في قولهم‏:‏ مثلك لا يفعل كذا، على قصد المبالغة في نفيه عنه فإنه إذا نفى عمن يناسبه ويسد مسده كان نفيه عنه أولى، ونظيره قول رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب‏:‏ أَلاَ وَفِيهِمْ الطَّيِّبُ الطَاهِرُ لِذَاتِهِ‏.‏ ومن قال الكاف فيه زائدة لعله عنى أنه يعطى معنى ‏{‏لَّيْسَ مّثْلِهِ‏}‏ غير أنه آكد لما ذكرناه‏.‏ وقيل «مثله» صفته أي ليس كصفته صفة‏.‏ ‏{‏وَهُوَ السميع البصير‏}‏ لكل ما يسمع ويبصر‏.‏

‏{‏لَّهُ مَقَالِيدُ السموات والأرض‏}‏ خزائنها‏.‏ ‏{‏يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ‏}‏ يوسع ويضيق على وقف مشيئته‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ‏}‏ فيفعله على ما ينبغي‏.‏

‏{‏شَرَعَ لَكُم مّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى‏}‏ أي شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد عليهما الصلاة والسلام ومن بينهما من أرباب الشرائع، وهو الأصل المشترك فيما بينهم المفسر بقوله‏:‏ ‏{‏أَنْ أَقِيمُواْ الدين‏}‏ وهو الإِيمان بما يجب تصديقه والطاعة في أحكام الله ومحله النصب على البدل من مفعول ‏{‏شَرَعَ‏}‏، أو الرفع على الاستئناف كأنه جواب وما ذلك المشروع أو الجر على البدل من هاء به‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ‏}‏ ولا تختلفوا في هذا الأصل أما فروع الشرائع مختلفة كما قال‏:‏ ‏{‏لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا‏}‏ ‏{‏كَبُرَ عَلَى المشركين‏}‏ عظم عليهم‏.‏ ‏{‏مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ‏}‏ من التوحيد‏.‏ ‏{‏الله يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ‏}‏ يجتلب إليه والضمير لما تدعوهم أو للدين‏.‏ ‏{‏وَيَهْدِى إِلَيْهِ‏}‏ بالإِشارة والتوفيق‏.‏ ‏{‏مَن يُنِيبُ‏}‏ يقبل إليه‏.‏

‏{‏وَمَا تَفَرَّقُواْ‏}‏ يعني الأمم السالفة‏.‏ وقيل أهل الكتاب لقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏ ‏{‏إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ العلم‏}‏ العلم بأن التفرق ضلال متوعد عليه، أو العلم بمبعث الرسل عليهم الصلاة والسلام، أو أسباب العلم من الرسل والكتب وغيرهما فلم يلتفتوا إليها‏.‏ ‏{‏بَغْياً بَيْنَهُمْ‏}‏ عداوة أو طلباً للدنيا‏.‏ ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَّبّكَ‏}‏ بالإِمهال‏.‏

‏{‏إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ هو يوم القيامة أو آخر أعمارهم المقدرة‏.‏ ‏{‏لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ‏}‏ باستئصال المبطلين حين اقترفوا لعظم ما اقترفوا‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ‏}‏ يعني أهل الكتاب الذين كانوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، أو المشركين الذين أورثوا القرآن من بعد أهل الكتاب‏.‏ وقرئ «ورثوا» و«ورثوا»‏.‏ ‏{‏لَفِى شَكٍّ مّنْهُ‏}‏ من كتابهم لا يعلمونه كما هو أو لا يؤمنون به حق الإيمان، أو من القرآن‏.‏ ‏{‏مُرِيبٍ‏}‏ مقلق أو مدخل في الريبة‏.‏

‏{‏فَلِذَلِكَ‏}‏ فلأجل ذلك التفرق أو الكتاب، أو العلم الذي أوتيته‏.‏ ‏{‏فادع‏}‏ إلى الاتفاق على الملة الحنيفية أو الاتباع لما أوتيت، وعلى هذا يجوز أن تكون اللام في موضع إلى لإِفادة الصلة والتعليل‏.‏ ‏{‏واستقم كَمَا أُمِرْتَ‏}‏ واستقم على الدعوة كما أمرك الله تعالى‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ‏}‏ الباطلة‏.‏ ‏{‏وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَا أَنزَلَ الله مِن كتاب‏}‏ يعني جميع الكتب المنزلة لا كالكفار الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض‏.‏ ‏{‏وَأُمِرْتُ لأَِعْدِلَ بَيْنَكُمُ‏}‏ في تبليغ الشرائع والحكومات، والأول إشارة إلى كمال القوة النظرية وهذا إشارة إلى كمال القوة العملية‏.‏ ‏{‏الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ‏}‏ خالق الكل ومتولي أمره‏.‏ ‏{‏لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم‏}‏ وكل مجازى بعمله‏.‏ ‏{‏لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ‏}‏ لا حجاج بمعنى لا خصومة إذ الحق قد ظهر ولم يبق للمحاجة مجال ولا للخلاف مبدأ سوى العناد‏.‏ ‏{‏الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا‏}‏ يوم القيامة‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ المصير‏}‏ مرجع الكل لفصل القضاء، وليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأساً حتى تكون منسوخة بآية القتال‏.‏

‏{‏والذين يُحَآجُّونَ فِى الله‏}‏ في دينه‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ‏}‏ من بعد ما استجاب له الناس ودخلوا فيه، أو من بعد ما استجاب الله لرسوله فأظهر دينه بنصره يوم بدر، أو من بعد ما استجاب له أهل الكتاب بأن أقروا بنبوته واستفتحوا به‏.‏ ‏{‏حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ زائلة باطلة‏.‏ ‏{‏وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ‏}‏ لمعاندتهم‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏ على كفرهم‏.‏

‏{‏الله الذى أَنزَلَ الكتاب‏}‏ جنس الكتاب‏.‏ ‏{‏بالحق‏}‏ ملتبساً بعيداً من الباطل، أو بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام‏.‏ ‏{‏والميزان‏}‏ والشرع الذي توزن به الحقوق ويسوى بين الناس، أو العدل بأن أنزل الأمر به أو آلة الوزن بأن أوحى بإعدادها‏.‏ ‏{‏وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ‏}‏ إتيانها فاتبع الكتاب واعمل بالشرع وواظب على العدل قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه أعمالك وتوفى جزاءك، وقيل تذكير القريب لأنه بمعنى ذات قرب، أو لأن الساعة بمعنى البعث

‏{‏يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا‏}‏ استهزاء‏.‏ ‏{‏والذين ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا‏}‏ خائفون منها مع اغتيابها لتوقع الثواب‏.‏ ‏{‏وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق‏}‏ أي الكائن لا محالة‏.‏

‏{‏أَلآَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ فِى الساعة‏}‏ يجادلون فيها من المرية، أو من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب لأن كلاً من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة‏.‏ ‏{‏لَفِى ضلال بَعِيدٍ‏}‏ عن الحق فإن البعث أشبه الغائبات إلى المحسوسات، فمن لم يهتد لتجويزه فهو أبعد عن الاهتداء إلى ما وراءه‏.‏

‏{‏الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ‏}‏ بر بهم بصنوف من البر لا تبلغها الأفهام‏.‏ ‏{‏يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ‏}‏ أي يرزقه كما يشاء فيخص كلاً من عباده بنوع من البر على ما اقتضته حكمته‏.‏ ‏{‏وَهُوَ القوى‏}‏ الباهر القدرة‏.‏ ‏{‏العزيز‏}‏ المنيع الذي لا يغلب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 30‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ‏(‏20‏)‏ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏21‏)‏ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ‏(‏22‏)‏ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏23‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏24‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏25‏)‏ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ‏(‏26‏)‏ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏27‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏28‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ‏(‏29‏)‏ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الأخرة‏}‏ ثوابها شبهه بالزرع من حيث أنه فائدة تحصل بعمل ولذلك قيل‏:‏ الدنيا مزرعة الآخرة، والحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض ويقال للزرع الحاصل منه‏.‏ ‏{‏نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ‏}‏ فنعطه بالواحد عشراً إلى سبعمائة فما فوقها‏.‏ ‏{‏وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا‏}‏ شيئاً منها على ما قسمنا له‏.‏ ‏{‏وَمَا لَهُ فِى الأخرة مِن نَّصِيبٍ‏}‏ إذ الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى‏.‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ‏}‏ بل ألهم شركاء، والهمزة للتقرير والتقريع وشركاؤهم شياطينهم‏.‏ ‏{‏شَرَعُواْ لَهُمْ‏}‏ بالتزيين‏.‏ ‏{‏مّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله‏}‏ كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا‏.‏ وقيل شركاؤهم أوثانهم وإضافتها إليهم لأنهم متخذوها شركاء، وإسناد الشرع إليها لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم بما تدينوا به، أو صور من سنة لهم‏.‏ ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل‏}‏ أي القضاء السابق بتأجيل الجزاء، أو العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة‏.‏ ‏{‏لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ‏}‏ بين الكافرين والمؤمنين، أو المشركين وشركائهم‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ وقرئ «أن» بالفتح عطفاً على كلمة ‏{‏الفصل‏}‏ أي ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل‏}‏ وتقدير عذاب الظالمين في الآخرة لقضي بينهم في الدنيا، فإن العذاب الأليم غالب في عذاب الآخرة‏.‏

‏{‏تَرَى الظالمين‏}‏ في القيامة‏.‏ ‏{‏مُشْفِقِينَ‏}‏ خائفين‏.‏ ‏{‏مِمَّا كَسَبُواْ‏}‏ من السيئات‏.‏ ‏{‏وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ‏}‏ أي وباله لاحق بهم أشفقوا أو لم يشفقوا‏.‏ ‏{‏والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِى روضات الجنات‏}‏ في أطيب بقاعها وأنزهها‏.‏ ‏{‏لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ أي ما يشتهونه ثابت لهم عند ربهم‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى المؤمنين‏.‏ ‏{‏هُوَ الفضل الكبير‏}‏ الذي يصغر دونه ما لغيرهم في الدنيا‏.‏

‏{‏ذَلِكَ الذى يُبَشّرُ الله عِبَادَهُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ ذلك الثواب الذي يبشرهم الله به فحذف الجار ثم العائد، أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «يُبَشّرُ» من بشره وقرئ «يُبَشّرُ» من أبشره‏.‏ ‏{‏قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ‏}‏ على ما أتعاطاه من التبليغ والبشارة‏.‏ ‏{‏أَجْراً‏}‏ نفعاً منكم‏.‏ ‏{‏إِلاَّ المودة فِى القربى‏}‏ أي تودوني لقرابتي منكم، أو تودوا قرابتي، وقيل الاستثناء منقطع والمعنى‏:‏ لا أسألكم أجراً قط ولكني أسألكم المودة، و‏{‏فِى القربى‏}‏ حال منها أي ‏{‏إِلاَّ المودة‏}‏ ثابتة في ذوي ‏{‏القربى‏}‏ متمكنة في أهلها، أو في حق القرابة ومن أجلها كما جاء في الحديث ‏"‏ الحب في الله والبغض في الله ‏"‏ روي‏:‏ أنها لما نزلت قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم علينا قال‏:‏

‏"‏ علي وفاطمة وابناهما ‏"‏ وقيل ‏{‏القربى‏}‏ التقرب إلى الله أي إلا أن تودوا الله ورسوله في تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح، وقرئ «إلا مودة في القربى»‏.‏ ‏{‏وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً‏}‏ ومن يكتسب طاعة سيما حب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ومودته لهم‏.‏ ‏{‏نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً‏}‏ في الحسنة بمضاعفة الثواب، وقرئ «يزد» أي يزد الله وحسنى‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ لمن أذنب‏.‏ ‏{‏شَكُورُ‏}‏ لمن أطاع بتوفية الثواب والتفضل عليه بالزيادة‏.‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ‏}‏ بل أيقولون‏.‏ ‏{‏افترى عَلَى الله كَذِبًا‏}‏ افترى محمد بدعوى النبوة أو القرآن‏.‏ ‏{‏فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ‏}‏ استبعاد للافتراء عن مثله بالإِشعار على أنه إنما يجترئ عليه من كان مختوماً على قلبه جاهلاً بربه، فأما من كان ذا بصيرة ومعرفة فلا، وكأنه قال‏:‏ إن يشأ الله خذلانك يختم على قلبك لتجترئ بالافتراء عليه‏.‏ وقيل يختم على قلبك يمسك القرآن أو الوحي عنه، أو يربط عليه بالصبر فلا يشق عليك أذاهم‏.‏ ‏{‏وَيَمْحُ الله الباطل وَيُحِقُّ الحق بكلماته إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ استئناف لنفي الافتراء عما يقوله بأنه لو كان مفترى لمحقه إذ من عادته تعالى محو الباطل وإثبات الحق بوحيه أو بقضائه أو بوعده، بمحو باطلهم وإثبات حقه بالقرآن، أو بقضائه الذي لا مرد له، وسقوط الواو من ‏{‏يمح‏}‏ في بعض المصاحف لاتباع اللفظ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَدْعُ الإنسان بالشر‏}‏ ‏{‏وَهُوَ الذى يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ‏}‏ بالتجاوز عما تابوا عنه، والقبول يعدى إلى مفعول ثان بمن وعن لتضمنه معنى الأخذ والإِبانة، وقد عرفت حقيقة التوبة‏.‏ وعن علي رضي الله تعالى عنه‏:‏ هي اسم يقع على ستة معان‏:‏ على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإِعادة، ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته‏.‏ ‏{‏وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات‏}‏ صغيرها وكبيرها لمن يشاء‏.‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا يَفْعَلُونَ‏}‏ فيجازي ويتجاوز عن إتقان وحكمة، وقرأ الكوفيون غير أبي بكر «ما تفعلون» بالتاء‏.‏

‏{‏وَيَسْتَجِيبُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ أي يستجيب الله لهم فحذف اللام كما حذف في ‏{‏وَإِذَا كَالُوهُمْ‏}‏ والمراد إجابة الدعاء أو الإِثابة على الطاعة، فإنها كدعاء وطلب لما يترتب عليها‏.‏ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ أفضل الدعاء الحمد لله ‏"‏ أو يستجيبون لله بالطاعة إذا دعاهم إليها‏.‏ ‏{‏وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ‏}‏ على ما سألوا واستحقوا واستوجبوا له بالاستجابة‏.‏ ‏{‏والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏ بدل ما للمؤمنين من الثواب والتفضل‏.‏

‏{‏وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الأرض‏}‏ لتكبروا وأفسدوا فيها بطراً، أو لبغى بعضهم على بعض استيلاء واستعلاء وهذا على الغالب، وأصل البغي طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى كمية أو كيفية‏.‏

‏{‏ولكن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ‏}‏ بتقدير‏.‏ ‏{‏مَا يَشَاء‏}‏ كما اقتضته مشيئته‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ‏}‏ يعلم خفايا أمرهم وجلايا حالهم فيقدر لهم ما يناسب شأنهم‏.‏ روي أن أهل الصفة تمنوا الغنى فنزلت‏.‏ وقيل في العرب كانوا إذا أخصبوا تحاربوا وإذا أجدبوا انتجعوا‏.‏

‏{‏وَهُوَ الذى يُنَزّلُ الغيث‏}‏ المطر الذي يغيثهم من الجدب ولذلك خص بالنافع، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم «يُنَزّلُ» بالتشديد‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ‏}‏ أيسوا منه، وقرئ بكسر النون‏.‏ ‏{‏وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ‏}‏ في كل شيء من السهل والجبل والنبات والحيوان‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الولى‏}‏ الذي يتولى عباده بإحسانه ونشر رحمته‏.‏ ‏{‏الحميد‏}‏ المستحق للحمد على ذلك‏.‏

‏{‏وَمِنْ ءاياته خَلْقُ السموات والأرض‏}‏ فإنها بذاتها وصفاتها تدل على وجود صانع قادر حكيم‏.‏ ‏{‏وَمَا بَثَّ فِيهِمَا‏}‏ عطف على ‏{‏السموات‏}‏ أو ال ‏{‏خلقُ‏}‏‏.‏ ‏{‏مِن دَابَّةٍ‏}‏ من حي على إطلاق اسم المسبب على السبب، أو مما يدب على الأرض وما يكون في أحد الشيئين يصدق أن فيها في الجملة‏.‏ ‏{‏وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ‏}‏ أي في أي وقت يشاء‏.‏ ‏{‏قَدِيرٌ‏}‏ متمكن منه و‏{‏إِذَا‏}‏ كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع‏.‏

‏{‏وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ فبسبب معاصيكم، والفاء لأن ‏{‏مَا‏}‏ شرطية أو متضمنة معناه، ولم يذكرها نافع وابن عامر استغناء بما في الباء من معنى السببية‏.‏ ‏{‏وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ‏}‏ من الذنوب فلا يعاقب عليها‏.‏ والآية مخصوصة بالمجرمين، فإن ما أصاب غيرهم فلأسباب أخر منها تعريضه للأجر العظيم بالصبر عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 40‏]‏

‏{‏وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏31‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ‏(‏32‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏33‏)‏ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ‏(‏34‏)‏ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏35‏)‏ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏36‏)‏ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ‏(‏37‏)‏ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ‏(‏39‏)‏ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الأرض‏}‏ فائتين ما قضى عليكم من المصائب‏.‏ ‏{‏وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله مِن وَلِيّ‏}‏ يحرصكم عنها‏.‏ ‏{‏وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏ يدفعها عنكم‏.‏

‏{‏وَمِنْ ءاياته الجوار‏}‏ السفن الجارية‏.‏ ‏{‏فِى البحر كالأعلام‏}‏ كالجبال‏.‏ قالت الخنساء‏:‏

وَإِنَّ صَخْراً لَتَأْتَمُّ الهُدَاةُ بِه *** كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارٌ

‏{‏إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح‏}‏ وقرئ «الرياح»‏.‏ ‏{‏فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ‏}‏ فيبقين ثوابت على ظهر البحر‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏ لكل من وكل همته وحبس نفسه على النظر في آيات الله والتفكر في آلائه، أو لكل مؤمن كامل الإِيمان فإن الإِيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر‏.‏

‏{‏أَوْ يُوبِقْهُنَّ‏}‏ أو يهلكهن بإرسال الريح العاصفة المغرقة، والمراد إهلاك أهلها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِمَا كَسَبُواْ‏}‏ وأصله أو يرسلها فيوبقهن لأنه قسيم يسكن فاقتصر فيه على المقصود كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ‏}‏ إذ المعنى أو يرسلها فيوبق ناساً بذنوبهم وينج ناساً على العفو منهم، وقرئ «ويعفو» على الاستئناف‏.‏

‏{‏وَيَعْلَمَ الذين يجادلون فِى ءاياتنا‏}‏ عطف على علة مقدرة مثل لينتقم منهم ‏{‏وَيَعْلَمَ‏}‏، أو على الجزاء ونصب نصب الواقع جواباً للأشياء الستة لأنه أيضاً غير واجب، وقرأ نافع وابن عامر بالرفع على الاسئتناف، وقرئ بالجزم عطفاً على ‏{‏يعف‏}‏ فيكون المعنى ويجمع بين إهلاك قوم وإنجاء قوم وتحذير آخرين‏.‏ ‏{‏مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ‏}‏ محيد من العذاب والجملة معلق عنها الفعل‏.‏

‏{‏فَمَا أُوتِيتُمْ مّن شَئ فمتاع الحياة الدنيا‏}‏ تمتعون به مدة حياتكم‏.‏ ‏{‏وَمَا عِندَ الله‏}‏ من ثواب الآخرة‏.‏ ‏{‏خَيْرٌ وأبقى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ لخلوص نفعه ودوامه و‏{‏مَا‏}‏ الأولى موصولة تضمنت معنى الشرط من حيث أن إيتاء ما أوتوا سبب للتمتع بها في الحياة الدنيا فجاءت الفاء في جوابها بخلاف الثانية‏.‏ وعن علي رضي الله تعالى عنه‏:‏ تصدق أبو بكر رضي الله تعالى عنه بماله كله فلامه جمع فنزلت‏.‏

‏{‏والذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ‏}‏ ‏{‏والذين‏}‏ بما بعده عطف على ‏{‏لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ‏}‏ أو مدح منصوب أو مرفوع، وبناء ‏{‏يَغْفِرُونَ‏}‏ على ضميرهم خبراً للدلالة على أنهم الأخصاء بالمغفرة حال الغضب، وقرأ حمزة والكسائي «كبير الإِثم»‏.‏

‏{‏والذين استجابوا لِرَبّهِمْ‏}‏ نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإِيمان فاستجابوا له‏.‏ ‏{‏وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ‏}‏ ذو شورى بينهم لا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه، وذلك من فرط تدبرهم وتيقظهم في الأمور، وهي مصدر كالفتيا بمعنى التشاور‏.‏ ‏{‏وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏ في سبيل الله الخير‏.‏

‏{‏والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغى هُمْ يَنتَصِرُونَ‏}‏ على ما جعله الله لهم كراهة التذلل، وهو وصفهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر أمهات الفضائل وهو لا يخالف وصفهم بالغفران، فإنه ينبئ عن عجز المغفور والانتصار عن مقاومة الخصم، والحلم عن العاجز محمود وعن المتغلب مذموم لأنه إجراء وإغراء على البغي، ثم عقب وصفهم بالانتصار للمنع عن التعدي‏.‏

‏{‏وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا‏}‏ وسمى الثانية ‏{‏سَيّئَةٌ‏}‏ للازدواج، أو لأنها تسوء من تنزل به‏.‏ ‏{‏فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ‏}‏ بينه وبين عدوه‏.‏ ‏{‏فَأَجْرُهُ عَلَى الله‏}‏ عدة مبهمة تدل على عظم الموعود‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين‏}‏ المبتدئين بالسيئة والمتجاوزين في الانتقام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 53‏]‏

‏{‏وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏41‏)‏ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏42‏)‏ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏43‏)‏ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏44‏)‏ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ ‏(‏45‏)‏ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏46‏)‏ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ‏(‏47‏)‏ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ ‏(‏48‏)‏ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ‏(‏49‏)‏ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ‏(‏50‏)‏ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ‏(‏51‏)‏ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏52‏)‏ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ‏}‏ بعد ما ظلم، وقد قرئ به‏.‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ‏}‏ بالمعاتبة والمعاقبة‏.‏

‏{‏إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس‏}‏ يبتدؤنهم بالإِضرار ويطلبون ما لا يستحقونه تجبراً عليهم‏.‏ ‏{‏وَيَبْغُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الحق أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ على ظلمهم وبغيهم‏.‏

‏{‏وَلَمَن صَبَرَ‏}‏ على الأذى‏.‏ ‏{‏وَغَفَرَ‏}‏ ولم ينتصر‏.‏ ‏{‏إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور‏}‏ أي إن ذلك منه فحذف كما حذف في قولهم‏:‏ السمن منوان بدرهم، للعلم به‏.‏

‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِىّ مّن بَعْدِهِ‏}‏ من ناصر يتولاه من بعد خذلان الله إياه‏.‏ ‏{‏وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب‏}‏ حين يرونه فذكر بلفظ الماضي تحقيقاً‏.‏ ‏{‏يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ‏}‏ هل إلى رجعة إلى الدنيا‏.‏

‏{‏وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا‏}‏ على النار، ويدل عليه ‏{‏العذاب‏}‏‏.‏ ‏{‏خاشعين مِنَ الذل‏}‏ متذللين متقاصرين مما يلحقهم من الذل‏.‏ ‏{‏يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ‏}‏ أيبتدئ نظرهم إلى النار مع تحريك لأجفانهم ضعيف كالمصبور ينظر إلى السيف‏.‏ ‏{‏وَقَالَ الذين ءَامَنُواْ إِنَّ الخاسرين الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ‏}‏ بالتعريض للعذاب المخلد‏.‏ ‏{‏يَوْمَ القيامة‏}‏ ظرف ل ‏{‏خَسِرُواْ‏}‏ والقول في الدنيا، أو لقال أي يقولون إذا رأوهم على تلك الحال‏.‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّ الظالمين فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ‏}‏ تمام كلامهم أو تصديق من الله لهم‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُم مّن دُونِ الله وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ‏}‏ إلى الهدى أو النجاة‏.‏

‏{‏استجيبوا لِرَبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله‏}‏ لا يرده الله بعدما حكم به و‏{‏مِنْ‏}‏ صلة ل ‏{‏مَرَدَّ‏}‏‏.‏ وقيل صلة ‏{‏يَأْتِىَ‏}‏ أي من قبل أن يأتي يوم من الله لا يمكن رده‏.‏ ‏{‏مَا لَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ‏}‏ مفر‏.‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِيرٍ‏}‏ إنكار لما اقترفتموه لأنه مدون في صحائف أعمالكم تشهد عليه ألسنتكم وجوارحكم‏.‏

‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً‏}‏ رقيباً أو محاسباً‏.‏ ‏{‏إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ‏}‏ وقد بلغت‏.‏ ‏{‏وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا‏}‏ أراد بالإِنسان الجنس لقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ‏}‏ بليغ الكفران ينسى النعمة رأساً ويذكر البلية ويعظمها ولا يتأمل سببها، وهذا وإن اختص بالمجرمين جاز إسناده إلى الجنس لغلبتهم واندراجهم فيه‏.‏ وتصدير الشرطية الأولى ب ‏{‏إِذَا‏}‏ والثانية ب ‏{‏إَنَّ‏}‏ لأن أذاقة النعمة محققة من حيث أنها عادة مقتضاة بالذات بخلاف إصابة البلية، وإقامة علة الجزاء مقامه ووضع الظاهر موضع المضمر في الثانية للدلالة على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعمة‏.‏

‏{‏للَّهِ مُلْكُ السموات والأرض‏}‏ فله أن يقسم النعمة والبلية كيف يشاء‏.‏ ‏{‏يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ‏}‏ من غير لزوم ومجال اعتراض‏.‏ ‏{‏يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إناثا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذكور‏}‏‏.‏

‏{‏أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وإناثا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً‏}‏ بدل من ‏{‏يَخْلُقُ‏}‏ بدل البعض، والمعنى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة على مقتضى المشيئة فيهب لبعض إما صنفاً واحداً من ذكر أو أنثى أو الصنفين جميعاً ويعقم آخرين، ولعل تقديم الإِناث لأنها أكثر لتكثير النسل، أو لأن مساق الآية للدلالة على أن الواقع ما يتعلق به مشيئة الله لا مشيئة الإِنسان والإِناث كذلك، أو لأن الكلام في البلاء والعرب تعدهن بلاء، أو لتطييب قلوب آبائهن أو للمحافظة على الفواصل ولذلك عرف الذكور، أو لجبر التأخير وتغيير العاطف في الثلث لأنه قسيم المشترك بين القسمين، ولم يحتج إليه الرابع لا فصاحة بأنه قسيم المشترك بين الأقسام المتقدمة‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ‏}‏ فيفعل ما يفعل بحكمة واختيار‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ‏}‏ وما صح له‏.‏ ‏{‏أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً‏}‏ كلاماً خفياً يدرك لأنه بسرعة تمثيل ليس في ذاته مركباً من حروف مقطعة تتوقف على تموجات متعاقبة، وهو ما يعم المشافه به كما روي في حديث المعراج، وما وعد به في حديث الرؤية والمهتف به كما اتفق لموسى في طوى والطور، ولكن عطف قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ‏}‏ عليه يخصه بالأول فالآية دليل على جواز الرؤية لا على امتناعها‏.‏ وقيل المراد به الإِلهام والإِلقاء في الروع أو الوحي المنزل به الملك إلى الرسل فيكون المراد بقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ‏}‏ أو يرسل إليه نبياً فيبلغ وحيه كما أمره، وعلى الأول المراد بالرسول الملك الموحي إلى الرسل، ووحياً بما عطف عليه منتصب بالمصدر لأن ‏{‏مِن وَرَاء حِجَابٍ‏}‏ صفة كلام محذوف والإِرسال نوع من الكلام، ويجوز أن يكون وحياً ويرسل مصدرين و‏{‏مِن وَرَاء حِجَابٍ‏}‏ ظرفاً وقعت أحوالاً، وقرأ نافع ‏{‏أَوْ يُرْسِلَ‏}‏ برفع اللام‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ عَلِىٌّ‏}‏ عن صفات المخلوقين‏.‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ يفعل ما تقتضيه حكمته فيكلم تارة بوسط، وتارة بغير وسط إما عياناً وإما من وراء حجاب‏.‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا‏}‏ يعني ما أوحي إليه، وسماه روحاً لأن القلوب تحيا به، وقيل جبريل والمعنى أرسلناه إليك بالوحي‏.‏ ‏{‏مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان‏}‏ أي قبل الوحي، وهو دليل على أنه لم يكن متعبداً قبل النبوة بشرع‏.‏ وقيل المراد هو الإِيمان بما لا طريق إليه إلا السمع‏.‏ ‏{‏ولكن جعلناه‏}‏ أي الروح أو الكتاب أو الإِيمان‏.‏ ‏{‏نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ بالتوفيق للقبول والنظر فيه‏.‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ هو الإِسلام، وقرئ «لَتَهْدِى» أي ليهديك الله‏.‏

‏{‏صراط الله‏}‏ بدل من الأول‏.‏ ‏{‏الذى لَهُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ خلقاً وملكاً‏.‏ ‏{‏أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور‏}‏ بارتفاع الوسائط والتعلقات، وفيه وعد ووعيد للمطيعين والمجرمين‏.‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ حم عسق كان ممن تصلي عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحمون له ‏"‏‏.‏

سورة الزخرف

مكية وقيل إلا قوله‏:‏ واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا وآيها تسع وثمانون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 14‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏3‏)‏ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ‏(‏4‏)‏ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ‏(‏5‏)‏ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ ‏(‏6‏)‏ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏7‏)‏ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏8‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ‏(‏9‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏10‏)‏ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ‏(‏11‏)‏ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ‏(‏12‏)‏ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ‏(‏13‏)‏ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏حم‏}‏ ‏{‏والكتاب المبين‏}‏ ‏{‏إِنَّا جعلناه قُرْءاناً عَرَبِيّاً‏}‏ أقسم بالقرآن على أنه جعله قرآناً عربياً، وهو من البدائع لتناسب القسم والمقسم عليه كقول أبي تمام‏:‏

وَثَنَايَاكَ أَنَّهَا إِغْرِيضُ *** ولعل إقسام الله بالأشياء استشهاد بما فيها من الدلالة على المقسم عليه، وبالقرآن من حيث أنه معجز مبين لطرق الهدى وما يحتاج إليه في الديانة، أو بين للعرب ما يدل على أنه تعالى صيره كذلك ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ لكي تفهموا معانيه‏.‏

‏{‏وَإِنَّهُ‏}‏ عطف على انا، وقرأ حمزة والكسائي بالكسر على الاستئناف‏.‏ ‏{‏فِى أُمّ الكتاب‏}‏ في اللوح المحفوظ فإنه أصل الكتب السماوية، وقرئ أم الكتاب بالكسر‏.‏ ‏{‏لَدَيْنَا‏}‏ محفوظاً عندنا عن التغيير‏.‏ ‏{‏لَّعَليٌّ‏}‏ رفيع الشأن في الكتب لكونه معجزاً من بينها‏.‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ ذو حكمة بالغة، أو محكم لا ينسخه غيره‏.‏ وهما خبران لأن ‏{‏وَفِى أُمِّ الكتاب‏}‏ متعلق ب ‏{‏لَّعَليٌّ‏}‏ واللام لا تمنعه، أو حال منه و‏{‏لَدَيْنَا‏}‏ بدل منه أو حال من ‏{‏أُمِّ الكتاب‏}‏‏.‏

‏{‏أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً‏}‏ أفنذوده ونبعده عنكم مجاز من قولهم‏:‏ ضرب الغرائب عن الحوض، قال طرفة‏:‏

اضْرِبْ عَنْكَ الهُمُومَ طَارِقَهَا *** ضَرْبكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَس الفَرَسِ

والفاء للعطف على محذوف أي انهملكم فنضرب ‏{‏عَنكُمُ الذكر‏}‏، و‏{‏صَفْحاً‏}‏ مصدر من غير لفظه فإن تنحية الذكر عنهم إعراض أو مفعول له أو حال بمعنى صافحين، وأصله أن تولي الشيء صفحة عنقك‏.‏ وقيل إنه بمعنى الجانب فيكون ظرفاً ويؤيده أنه قرئ «صَُفْحاً» بالضم، وحينئذ يحتمل أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح بمعنى صافحين، والمراد إنكار أن يكون الأمر على خلاف ما ذكر من إنزال الكتاب على لغتهم ليفهموه‏.‏ ‏{‏أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ‏}‏ أي لأن كنتم، وهو في الحقيقة علة مقتضية لترك الإِعراض عنهم، وقرأ نافع وحمزة والكسائي ‏{‏إن‏}‏ بالكسر على أن الجملة شرطية مخرجة للمحقق مخرج المشكوك استجهالاً لهم، وما قبلها دليل الجزاء‏.‏

‏{‏وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى الأولين‏}‏ ‏{‏وَمَا يَأْتِيهِم مّنْ نَّبِيٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ‏}‏ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزاء قومه‏.‏

‏{‏فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً‏}‏ أي من القوم المسرفين لأنه صرف الخطاب عنهم إلى الرسول مخبراً عنهم‏.‏ ‏{‏ومضى مَثَلُ الأولين‏}‏ وسلف في القرآن قصتهم العجيبة، وفيه وعد للرسول ووعيد لهم بمثل ما جرى على الأولين‏.‏

‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم‏}‏ لعله لازم مقولهم أو ما دل عليه إجمالاً أقيم مقامه تقريراً لإِلزام الحجة عليهم، فكأنهم قالوا «الله» كما حكي عنهم في مواضع أخر وهو الذي من صفته ما سرد من الصفات، ويجوز أن يكون مقولهم وما بعده استئناف ‏{‏الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً‏}‏ فتستقرون فيها وقرئ غير الكوفيين «مهاداً» بالإلف‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً‏}‏ تسلكونها‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ لكي تهتدوا إلى مقاصدكم، أو إلى حكمة الصانع بالنظر في ذلك‏.‏

‏{‏والذى نَزَّلَ مِنَ السماء مَاءً بِقَدَرٍ‏}‏ بمقدار ينفع ولا يضر‏.‏ ‏{‏فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً‏}‏ مال عنه الماء‏.‏ وتذكيره لأن البلدة بمعنى البلد والمكان‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك الإِنشار‏.‏ ‏{‏تُخْرَجُونَ‏}‏ تنشرون من قبوركم، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ‏{‏تخْرَجُونَ‏}‏ بفتح التاء وضم الراء‏.‏

‏{‏والذى خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا‏}‏ أصناف المخلوقات‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ‏}‏ ما تركبونه على تغليب المتعدي بنفسه على المتعدي بغيره إذ يقال‏:‏ ركبت الدابة وركبت في السفينة، أو المخلوق للركوب على المصنوع له أو الغالب على النادر ولذلك قال‏:‏

‏{‏لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ‏}‏ أي ظهور ما تركبون وجمعه للمعنى‏.‏ ‏{‏ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ‏}‏ تذكروها بقلوبكم معترفين بها حامدين عليها‏.‏ ‏{‏وَتَقُولُواْ سبحان الذى سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ‏}‏ مطيقين من أقرن الشيء إذا أطاقه، وأصله وجد قرينته إذ الصعب لا يكون قرينة الضعيف‏.‏ وقرئ بالتشديد والمعنى واحد‏.‏ وعنه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال‏:‏ «بسم الله» فإذا استوى على الدابة قال‏:‏ «الحمد لله على كل حال» ‏{‏سبحان الذى سَخَّرَ لَنَا هذا‏}‏ إلى قوله‏:‏

‏{‏وَإِنَّا إلى رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ‏}‏ أي راجعون، واتصاله بذلك لأن الركوب للتنقل والنقلة العظمى هو الانقلاب إلى الله تعالى، أو لأنه مخطر فينبغي للراكب أن لا يغفل عنه ويستعد للقاء الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 21‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ‏(‏16‏)‏ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏17‏)‏ أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ‏(‏18‏)‏ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً‏}‏ متصل بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ‏}‏ أي وقد جعلوا له بعد ذلك الاعتراف من عباده ولداً فقالوا الملائكة بنات الله، ولعله سماه جزءاً كما سمي بعضاً لأنه بضعة من الوالد دلالة على استحالته على الواحد الحق في ذاته، وقرأ أبو بكر «جزأ» بضمتين‏.‏ ‏{‏إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر الكفران ومن ذلك نسبة الولد إلى الله لأنها من فرط الجهل به والتحقير لشأنه‏.‏

‏{‏أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وأصفاكم بالبنين‏}‏ معنى الهمزة في ‏{‏أَمْ‏}‏ للإِنكار والتعجب من شأنهم حيث لم يقنعوا بأن جعلوا له جزءاًً حتى جعلوا له من مخلوقاته أجزاء أخس مما اختير لهم وأبغض الأشياء إليهم، بحيث إذا بشر أحدهم بها اشتد غمه به كما قال‏.‏

‏{‏وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً‏}‏ بالجنس الذي جعله له مثلاً إذ الولد لا بد وأن يماثل الوالد‏.‏ ‏{‏ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً‏}‏ صار وجهه أسود في الغاية لما يعتريه من الكآبة‏.‏ ‏{‏وَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏ مملوء قلبه من الكرب، وفي ذلك دلالات على فساد ما قالوه، وتعريف البنين بما مر في الذكور، وقرئ «مسود» و«مسواد» على أن في ‏{‏ظِلّ‏}‏ ضمير المبشر و«وَجْهُهُ مُسْوَدّ» جملة وقعت خبراً‏.‏

‏{‏أَوْ مِن يُنَشَّأُ فِى الحلية‏}‏ أي أو جعلوا له، أو اتخذ من يتربى في الزينة يعني البنات‏.‏ ‏{‏وَهُوَ فِى الخصام‏}‏ في المجادلة‏.‏ ‏{‏غَيْرُ مُبِينٍ‏}‏ مقرر لما يدعيه من نقصان العقل وضعف الرأي، ويجوز أن يكون من مبتدأ محذوف الخبر أي أو من هذا حالة ولده و‏{‏فِى الخصام‏}‏ متعلق ب ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏، وإضافة ‏{‏غَيْرِ‏}‏ إليه لا يمنعه لما عرفت‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص ‏{‏يُنَشَّأُ‏}‏ أي يربي‏.‏ وقرئ ‏{‏يُنَشَّأُ‏}‏ و«يناشأ» بمعناه ونظير ذلك أعلاه وعلاه وعالاه بمعنى‏.‏

‏{‏وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا‏}‏ كفر آخر تضمنه مقالهم شنع به عليهم، وهو جعلهم أكمل العباد وأكرمهم على الله تعالى أنقصهم رأياً وأخسهم صنفاً‏.‏ وقرئ عبيد وقرأ الحجازيان وابن عامر ويعقوب «عند» على تمثيل زلفاهم‏.‏ وقرئ «أنثاً» وهو جمع الجمع‏.‏ ‏{‏أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ‏}‏ أحضروا خلق الله إياهم فشاهدوهم إناثاً، فإن ذلك مما يعلم بالمشاهدة وهو تجهيل وتهكم به‏.‏ وقرأ نافع «أَشْهَدُواْ» بهمزة الاستفهام وهمزة مضمومة بين بين، و«آأشهدوا» بمدة بينهما‏.‏ ‏{‏سَتُكْتَبُ شهادتهم‏}‏ التي شهدوا بها على الملائكة‏.‏ ‏{‏وَيُسْئَلُونَ‏}‏ أي عنها يوم القيامة، وهو وعيد شديد‏.‏ وقرئ «سيكتب» و«سنكتب» بالياء والنون‏.‏ و«شهاداتهم» وهي أن الله جزء أو أن له بنات وهن الملائكة ويساءلون من المساءلة‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ لَوْ شَاءَ الرحمن مَا عبدناهم‏}‏ أي لو شاء عدم عبادة الملائكة ما عبدناهم فاستدلوا بنفي مشيئته عدم العبادة على امتناع النهي عنها أو على حسنها، وذلك باطل لأن المشيئة ترجح بعض الممكنات على بعض مأموراً كان أو منهياً حسناً كان أو غيره، ولذلك جهلهم فقال‏:‏ ‏{‏مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ‏}‏ يتمحلون تمحلاً باطلاً، ويجوز أن تكون الإِشارة إلى أصل الدعوى كأنه لما أبدى وجوه فسادها وحكى شبهتهم المزيفة نفى أن يكون لهم بها علم من طريق العقل، ثم أضرب عنه إلى إنكار أن يكون لهم سند من جهة النقل فقال‏:‏

‏{‏أَمْ ءاتيناهم كتابا مّن قَبْلِهِ‏}‏ من قبل القرآن أو ادعائهم ينطق على صحة ما قالوه‏.‏

‏{‏فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ‏}‏ بذلك الكتاب متمسكون‏.‏